وحدث أن مر بي تساؤل كان يقول ، أنه لماذا فينا يموت الشغف وما الذي يجعلنا نألف اللامبالات ليتساوى بنظرنا كل شيء ، كل شيء دون استثناء ، ويصبح ليس باستطاعتنا سوى مراقبة ما يحدث دون أي ردة فعل تذكر .
كان السائل يخص بسؤاله مجتمعنا ، مجتمعنا ذاك الذي يستوطن الجنوب المنسي ، ذاك الجزء الذي يضج بالتخلف ، بالسلبيات، بالفوضى واللاترتيب .
أثار الموضوع تفكيري ، جعل مجموعة من الصور والمقتطفات تنساب بسرعة لتتكدس بتصادم على لوحة خيالي ، وأخذت أقفز بينها الواحدة تلو الأخرى وأعود بين الحين والآخر لأعيد النظر في أغلبها لما تحمله من معاني ألم ومعناة ..
لازلت كذلك حتى أخذني النوم قليلاً فرأيت فيما يرى النائم ؛ أني أَجوبُ الشوارع ليلاً بحثً عنك في كل مكان ، كان يملأُني الخوف ويُشعرني برغبة في البكاء مثل طفلة تائهة ، الغريب إني كُنت أَرَى بيتك يشع نوراً رغم الظلام الدامس الذي كان يحيطُ به من كل مكان .
كنت أعرف المسلك المؤدي إليه ، أعرف كل شارع ، كل زقاق بل وكل جدار في تلك المنطقة المكتضة والضاجة بالمشاة والركاب والجلس على الكراسي المتناثرات وعلى جنبات الطريق هنا وهناك .
كان جوا مخيفاً ، بل مرعب إلى حد ما ، يملأه القلق والحيرة.
كنت أعرف الطريق لكني تائهة ؛ تائهة لأن المكان مكاني وكل وجه فيه صادفني ملامحه ليست بالغريبة عني ، لكني لم أجرئ على تحديد الوجهة ولا على تثبيت الخطى ولا حتى الهرب من ذاك الضجيج الذي كان يجتاحني ، بل كان يغمرني كلي واجتثني منه ..
اتراه ضعف ، أم نوع من الفوبيا ، أهو حيرة ،أم ابتلاء يجعلني أفكر لوهلة وبسطحية جارفة فأجد الحل والمفر هو الرحيل وترك المكان ..
لا أعلم لماذا ؟
أخيراً وبعد عاصفة قلق من ذاك النوع الضخم الذي يلم بكل أنواع البرق ، زوابع الغبار الكثيفة ، الرعد ، والقليل من حبيبات المطر ؛ إنتهى بي الأمر مستيقظة على نبضات قلبي كزلزال يعصف بكل كياني.
قمت مسرعة من فراشي أتحسس المكان من حولي ، أريد التأكد أني هنا ،أين تركتني قبل الإبحار في النوم ؛ كنت اتخبط من غرفة إلى أخرى ، ثم بخطوات مسرعات ركضت نحو باب البيت أريد رؤية ما خلفه ، أريد رؤية الشارع .
تلعثمت أصابعي فلم أفلح في فتحه ، فحاولت مجدداً مرة فثانية ، فثالثة حتى نجحت في الأمر وفتح الباب اخيراً ؛ هرعت للخروج بسرعة خاطفة ثم وقفت في محاداته بتصنم تام وكلي فوضى باطناً وظاهراً ، كنت مركزة ، اتفحص ما حولي وبدقة محاولة المقارنة بين ما أراه الآن وما رأيته في الحلم .
ثم بعد هنيهات من اللاوعي المشوب بالتركيز العميق تأكدت أني هنا ، هنا أين تركتني البارحة ، أين كنت لازلت ؛ تمتمت بصوت مبحوح تخنقه السعادة .. إني هنا ..
صحيح أننا نحب أرضنا ، نحب من نحن رغم كل شيء ..
رغم كل عيوبنا ..
نحب تفاصيلنا الإيجابية منها وحتى السلبية رغم أنه ليس من العقل واللبابة سعادة الفرد وفرحه بتلك النقاط الضعيفة في شخصه ، بل من المفترض به أن يحاول ويعمل عليها لتصحيحها أو جعلها أقل ضرراً .
قال أحدهم، لا النتيجة تقتل ، ولا الخيبة، ولا حتى الإحباط والمنع، ما يقتل هو انطفاء تلك الشعلة المهولة التي تدعى رغبة أو شغف .
الرغبة في التحسن ، الشغف لبلوغ العلى ، والمنى بوصول الغايات والهمم العاليات ..
إن الأمر اشبه بأن تنتهي رغبتك تجاه هدف ما أو حلم طالما تأملته ، طالما تنفست نسيمه ، وركضت في السبيل إليه ؛ ثم فجأة يتوقف المشهد ، تبرد تلك الحماسة وتنطفئ الرغبة ، فيبهت لمعان الصورة ويختفي ذاك العطر الذي كان يجذبك ،
هو اشبه بأن تصِل لكنها ليست وجهتك، أنت راضٍ لكنك لاتقفز فرحاً مثلهم .
مؤلم ..
مؤلم أن يتساوى بنظرك كل شيء ، كل شيء دون استثناء ، لن يصبح باستطاعتك سوى مراقبة ما يحدث دون أي ردة فعل تذكر .
إنه استسلام مطلق ..
إنه الموت قبل الموت .
سعيدة اوداد ✒