ظهرت طرق التعليم ووسائله السائدة في الصحراء والساحل عموما وشمال النيجر ( آيير أزواغ)، ظهرت هذه الطرق منذ العهود الأولى لدخول الإسلام إلى تلك المناطق في القرن الأول – حسب بعض الروايات-، وتتخذ طرق التعليم أساليب متعددة كالكتابة على اللوح، والتسميع والعرض وإلقاء الدرس على التلاميذ بصورة فردية أو جماعية، وتتم هذه العملية في المجتمعات المتنقلة في المحاضر أحيانا، وفي بيوت الشيوخ أو السادة أو المعلمين في بعض الأحيان، وتتمثل المحضرة من حيث البناء في كوخ من القش أو خيمة او ظل شجرة، وتتمثل في القرى في مسجد الحي أو بيت الشيخ أو المعلم، وتوجد هذه المحاضر بكثرة في شمال النيجر عند الطوارق وغيرهم من السكان، وتجنبا للإطالة سنعطي مثالا نموذجيا بمحضرة واحدة ألا وهي محضرة " تَامَزْجَدّا" .
تفيد الرواية الشفوية المتداولة بين الأوساط الأزواعية حول تأسيس هذه المحضرة الشهيرة " تامزجدا" الواقعة على بعد 48 كم من "شينتبراضين" ، أن أحمد الفزاز من قبيلة الشّرفن أصيب بمرض خطير في سن الأربعين ووضع في مكان منعزل، وهو عبارة عن بيت صغير من القش يقال له بلهجة الطوارق " تيكربنت" ويعتبر هذا المرض الذي لم يظهر في النيجر بعد 1956 من النوع الذي يندر ويصعب الشفاء منه، بل يتسبب في موت أسرة كاملة.
وتعتني به عجوز تُدعى ترجو، وتزوره صباحا في كل يوم لتفقد حاله وتقديم الطعام له.
وذات يوم زارته على العادة وعلمت أن حالته خطيرة فتركته يائسة من حياته، مما جعلها تنتظر صباح الغد لتعلم ما صار إليه، فجاءت إلى البيت ورأت شخصا ذا ملابس بيضاء جديدة وعمامة جديدة وهو جالس في مكانه، فسألته عن المريض أين هو؟ فأجاب أنا فلان المريض الذي تسألين عنه! فكررت السؤال في استغراب قائلة أسألك عن المريض، فأعاد نفس الجواب مؤكدا أنه هو، وهنا بدأت حياة الفزاز كمكاشف يخبر عن الغيبيات فتشاهد كما وصفها، فانتشر خبره بين الناس فالتف حوله خلق كثير ينزلون عليه، فانتقل عن الشرفن في " دنّج" واستقر في ازواغ، ولما سمع خبره الشيوخ القاسم ويعقوب ويوسف المشهورون بالعلم والدين امتحنوه بأسئلة تتعلق ببعض الأحكام الشرعية فاجتاز هذا الامتحان بنجاح، فاعترفوا به وارتصوه وانتقلوا إليه، ويعتبر انضمامهم إلى جماعته ذا تأثير سياسي واجتماعي وديني لوجود علاقة تربط بينهم وبين أمير "أبلغ" ولم تزل جماعته تتزايد حتى اجتمعت عليه كل القبائل في أزواغ ونال حبا وتقديرا في أوساط معارفه.
وبالرغم من ادعاء المهدية له من قبل بعض مريده، إلا أنه لا توجد رواية تثبت أنه يدعي المهدية لنفسه، فاستغل مناوئوه هذه الشائعة ضده، حيث يشيعون أنه يدعي المهدية، وبالتالي فهو شخص ضال مضل يهدد الإسلام في المنطقة، ولكن ذلك كله لم يمنعه من مكانته الكبيرة عند مريده وأحبابه ومن يوالونه.
وهكذا تأسست محضرة " تمزجدا" وبقيت ذات وزن علمي وديني في أزواغ. ولم تزل هذه المحضرة من ذلك الوقت وحتى الآن يؤمها الطلاب في كثير من الجهات، وتدرس فيها شتى العلوم كعلوم الآلة والتاريخ والفقه المالكي والحديث والتفسير والسيرة النبوية وغير ذلك ويعلم فيها مدرسون وشيوخ من عدة قبائل، كإجدالن وداغمنّ وإجونجوتنن وفي الوقت الذي تدرس هذه المواد كلها في محضرة " تمزجدا" نجد نوعا من التركيز على بعض هذه المواد عند كل قبيلة من هذه القبائل التي يتكون منها مجتمع " تمزجدا" .
فمثلا إقدالن يركز كثير منهم على حفظ القرآن ويكثر فيهم الحفظ وداغمن يهتمون كثيرا بالفقه المالكي واللغة العربية وتعمق كثير منهم في الفقه واللغة، وركز كثير من إجونجوتن على الفقه أيضا وهذه معلومة شائعة ربما لا تطرد في بعض الأحيان ولا يمكن تبنيها كقاعدة، لأنك تجد منهم شخصا واحدا يعطي دروسا في هذه المواد كاملة.
والطابع العام الذي تتصف به هذه المدرسة هو التمسك بالمذهب المالكي لدرجة أنهم يقولون " إذا ضل مالك فنحن ضللنا" إلا أنهم يميلون إلى الوسطية في ممارسة الشعائر الدينية، ويفيد أحد أبناءهم أنه ليس لديهم طريقة من الطرق الصوفية يتبعونها وليست عندهم أوراد صوفيه بل منهجهم اتباع المذهب المالكي في كل شيء. ولهذه الزاوية وزن سياسي أيضا، ولها شعبي حتى الآن.
هذا، وقد خلف الفزازي ابنه محمد بعد وفاته، ومحمد هذا هو والد إمام مسجد الزاوية الحالي..
ومن مميزات هذه المحضرة أن القرار في الأحياء أو العشائر التي يتكون من مجموعها مجتمع " تمزجدا" يكون دائما قرارا جماعيا، لا يقرر عنهم فرد واحد. وطريقة اتخاذ القرار الجماعي عندهم أن يجتمعوا في عريش يتخذونه جنب المسجد، ويكون الاجتماع يوم الجمعة، حيث يناقشون قضاياهم ومستجدات شئونهم المهمة التي تحتاج إلى التشاور، فيتخذون قرارا متفقا عليه بشأن القضايا المطروحة.
ومن أعمالهم المشهورة مواساة الفقراء، ويجمعون الزكوات من القبائل المجاورة، ويوزعونها حيث الحاجة ووفق نظام داخلي متعارف عليه، ويشكل مجتمع " تمزجدا" مجتمعا محافظا لا يتفاعل مع كل برنامج جديد عليه إلا إذا تأكد من عدم مخالفته لثوابته ومبادئه الدينية والأخلاقية.[1]
مقررات التعليم :
قبل تناول صلب الموضوع تجدر الإشارة إلى حقيقة ماثلة، تتمثل في ظاهرة التشابه في الجانب الثقافي الديني الذي ظل واقعا بين شعوب الصحراء الكبرى وبين شعوب شمالها وجنوبها، أو منطقة الساحل أو غرب أفريقيا بصفة عامة في الجزء الإسلامي منها، وأعني هنا التشابه في التطبيق العملي للدين الإسلامي وكيفية تعليمه وتعلمه، يقول الشيخ محمد أحمد شفيع: يجب أن نلاحظ أنه في المجال الديني الثقافي فإن هناك ظاهرة تاريخية كبرى تدل على قوة الترابط بين الشمال الإفريقي والصحراء وغرب أفريقيا، ولذلك أسباب منها:
أن المذهب السائد في تلك المناطق في العقيدة هو مذهب أهل السنة ومذهب مالك في الفقه، وأنه لا يمنع من صحة كلامه وجود بعض الفرق الشيعية أو الخارجة في بعض المناطق، وأن الكتب المستعملة في تدريس الطلبة في الشمال الأفريقي هي نفسها التي سادت بالصحراء وغرب أفريقيا والساحل، وأن المنطقة كلها تقرأ القرآن برواية ورش إلى آخر كلامه[2].
لا شك أن الوسائل التعليمية والمناهج في شمال النيجر ينطبق عليهم كلام عبد السلام يوشارن حيث قال: وبصدد الحركة العلمية والثقافية الإسلامية التي عرفها هذا الجزء من صحرائنا الواسعة نرى أنه من حق العلم علينا وحق أعلامه ورجالاته الذين سخروا حياتهم لهذه المهمة النبيلة أن نعود إلى الوراء قليلا لنقف على حجم المجهودات الجبارة التي بذلت حتى أعطت ثمارها .. إلا أن قال حول المدارس الشعبية أو الأوقاف أو المحاضر: وتتكون أساسا من الزوايا التي كان الأهالي في كل منطقة يزودونها بما يكفيها من المؤن، وذلك باقتطاع مساحات من الأراضي الزراعية في أماكن الاستقرار لقائدة المدرسة أو الزاوية، وبتعيين رؤوس من الماشية في حالة البادية ( الرحل)، وبالنتيجة كانت المدارس أو الكتاتيب تخضع لنظام حياة البيئة المحيطة، فهي مستقرة في الحالة الأولى متنقلة في الحالة الثانية، وبالطبع كانت أهمية المدرسة متناسبة طرديا مع السكان، فستجد أهمية مركزها من كثافتهم ومن استقبالها للطلاب وغزارة المواد التي تدرس بها، ويؤمن هذا التعليم معلمون متنقلون أحيانا يلتزمون بتدريس عدد من التلاميذ ويتولى أولياء التلاميذ تأمين معاش المعلم بوسائلهم المتاحة[3]. إلا أن بعض الشيوخ القائمين على التعليم في محاضرهم الخاصة في ( آيير آزواغ) ينفقون على تلاميذهم على حسابهم الخاص، وتبدأ مرحلة التعليم الأولى بتحفيظ القرآن وتدريس بعض النصوص المختصرة من العقيدة والفقه والنحو والصرف واللغة، حيث يبدأ التلميذ بحفظ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة أو العقيدة السنوسية أم البراهين، ومختصر الأخضري في الفقه أو العشماوية والأجرومية في النحو، ثم ينتقل إلى مرحلة أعلى فيدرس الرسالة لأبي محمد بن أبي زيد القيرواني بشكل كامل ويدرس مختصر خليل مع بعض شروحه، منظومة المقري المسماة" إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة" ويدرس ألفية ابن مالك في النحو ثم يتوسع حسب الإمكان من دراسة الكتب ومطالعتها في العقيدة والفقه واللغة والسيرة والحديث والتاريخ، وبعض الطلاب إذا ذاق طعم العلم يرحل في طلبه خارج منطقته فيرجع متضلعا في العلوم ويباشر التعليم بنفسه، وباختصار شديد، فالمنطقة يشملها قول الدكتور محمد الفران : إن المنهج التعليمي الذي ساد في بلاد السودان لا يختلف عن باقي البلدان العربية الإسلامية الأخرى، إذ كان يتضمن في مرحلته الأولى تحفيظ الصبيان القرآن الكريم وتلقينهم المبادئ الإسلامية للدين الإسلامي الحنيف، وإلى جانب ذلك يتلقون دروسا في قراءة اللغة العربية وكتابتها، أما المرحلة العالية فكان التعليم فيها يشمل جميع العلوم العربية الإسلامية النقيلة والعقلية كالتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والبلاغة والبيان والمنطق والتاريخ وغيرها من المعارف التي تشكل الدعائم الأساسية للحضارة الإسلامية[4].
بقلـم: أحمــــد خميــس نـــوح الأزوادي
[1] مقابلة مع الشيخ / عمر السني بتاريخ ....
[2] محمد أحمد شفيع: أعمال الندوة ص 164-165
[3] عبد السلام بوشارب ، الهقار أمجاد وأنجاد ص 90-91
[4] د. محمد الفران ، الندوة ، ص 132